صمت !!

صمت !!

من غرفة إلى غرفة يجوب أرجاء الشقة الصغيرة، دار حول نفسه ، سقط ، أفاق من لسعة الأرضية الباردة ، بحلق فى الظلام الحالك ، نهض يتحسس الأثاث ، وصل إلى زر النور ، يلتقط الأنفاس من الهواء الراكد ، ينتفض ، يقفز نحو المطبخ ، يعد وجبة ساخنة دسمة ، أدار الراديو على محطات متداخلة ، غاصت شهيته فى أفكاره ، تحسس الطعام البارد ، نفر ، قام ، ألقى نظرة من شرفة المنزل على الهدوء المخيم .. تأفف.

فى سرعة بارقة خطف ثيابه ، تأنق ، تعطر ، هذب الشعيرات البيضاء ، حشى الحذاء بقدميه الباردتين. أدار سيارته بسرعة وصل إلى شباك التذاكر بسينما بوسط البلد ، فى رحلته لايسمع صوت المارة ولا نفير السيارات ، الشوارع تعج بالبشر الساخطين والراكضين . لم يعد يطيق الإنتظار ، إنزوى بركن فى كافيتيريا السينما فى انتظار العرض .

يتعمد أن يشق الصفوف محدثا جلبة ليوجه له أحدهم اللوم على تأخره وقطع استرساله مع الفيلم وينتظره حتى يمر . اخترق الظلام على شعاع البطارية الرفيع .. لم يلتفت أحد له ، جلس ، اكتفى بمتابعة الفيلم وسط أناس تتوحد معه على صورة واحدة .

حركات الممثلين على الشاشة تشى بفيلم عنف . حاول الاستغراق والمتابعة ، تذكره صورة المصعد الآن وهو يحمل مدير المؤسسة الكبيرة بعمله الذى خرج منه على المعاش منذ شهور . اشتهر بقلة كلامه ، وإذا تكلم فهو آمر ، حركة الأوراق والأرقام هى ما تعنيه ، لم يسمح لموظف أو زميل بمناقشته شفهيا ، كله بالأوراق والأختام والتوقيعات ، يومه ملىء بالعمل .

المنزل أصيب من فيه بالخرس .. دائما لديه صداع ، يريد السكون ، تعلمت زوجته لغة الفاكس فى حواراتها ولما ضاقت به تركت المنزل مصطحبة الأولاد لتعيش مع أمها العجوز، تزوج أبناؤه ولم تعد الزوجة .. نسيته . أفاق ، وجد الصمت يلف السينما مازالت الصور تتحرك فوق الشاشة الكبيرة ، فى هدوء مد يده يتحسس من بجواره ليتأكد بأنه ليس تمثالا ، وقعت يده على جزء طرى ، نهرته المرأة بنظرة غاضبة ، إعتذر عن تصرفه :

- آسف لم أكن أقصد .. إنها .
توقف عن الكلام كانت قد استدارت عنه ، إلتفت للناحية الأخرى ، طفل بجوار والده أراد مصادقته مد يده فى جيبه .. تذكر .. لم يكن به أبداً مكانا للحلوى ، بسط كفه فوق ركبة الطفل :
- "هيه يابطل" أعجبك الفيلم ؟

قطب الطفل ، لَمًّ ساقه مزمجرا ، تنبه الجالس أمامه نظر بامتعاض .. انكمش الرجل داخل صمته ، أضيئت الأنوار (استراحة) خويت المقاعد الا قلبلا تأملهم .. فتى وفتاة يتضاحكان ، آخران يتهامسان ، وذاك لف ذراعه حول كتف رفيقته التى تناومت فوقه ، شلة من الأصدقاء الشباب إخترقت نكاتهم طبلة أذنيه ، ضحك ، وجم ، إنه لا يمتلك صديقا واحدا . إنتهت الاستراحة ، فى الظلام لملم نفسه جر رجليه إنسحب .
فوق مكتبه وبعد تلقى العزاء فى مدافن المدينة الجديدة البعيدة وجدت زوجته وأولاده ورقة بيضاء "وصية" لا تدفنونى فى قبرى الجديد الذى اشتريته لأدفن فيه بل فى مدافن العائلة بقريتى فأنا أخاف الوحدة . همت ابنته بالصراخ نهرتها الأم :
- إصمتى .. كان أبوك يفضل السكون .



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق