لغة أخرى
افترش النجيل باسطا ذراعيه تدثره السماء .. تسابقت دموعه فوق وجنتيه . عاجزا عن شق صدره ليلقى بالاختناق بعيدا .. زفرة طويلة أصدرت صفيرا .. كررها .. سمع زقزقات الطيور .. صفر ثانية .. عانقه هديل الحمام ، سرب العصافير يقترب منه ، حرك ذراعيه .. ضم الهواء لصدره .. صفر وصفر .. قفز .. رقص .. ضرب بجناحيه .. عانق الأشجار .. إنه يخرج صوتا ، هناك من يسمعه ويفهمه .. هرول إليها عائدا.
اجتذبها نحوه .. حاول أن يدخلها فى عمق عينيه .. حاولت الخلاص من ذراعيه القابضتين عليها .. صفر لها .. انفلتت منه ساخرة :
- بلاش هبل .. مش فاضيه .
انكسرت لمعة عينيه ، احمرت أذناه ، ركل قفة الخبز ، خرج .
ارتكن بزاوية فى الصيدلية ، راح ينظفها ، أخذ يراقب الشفاة المتحركة :
- أريد دواء للصداع يا دكتور .
- أريد دواء لإسهال .
- أريد حقنة إنسولين .
ركض نحو المرآة ، حاول أن يحرك شفتيه بكلمة أريد .. ظن أنه فعلها ، وقف أمام صاحب الصيدلية ، جذبه من يديه ، حاول إخراج الكلمة .
ضحك الصيدلى ساخرا ، داعبه لم يلتفت لمحاولته .. حمَّله باحتياجات المنزل ، أحنى رقبته .. إحمرت أذناه .. عرج على طريق السوق ليطمئن على زوجته .. رآها تبلل الفجل بنغمات صوتها :
- الورور طازه يافجل .
نظر لشواشى الجزر .. يشبه شعرها .. كعباها مشققان ... لونهما بلون التراب الذى تجلس فوقه ، تزوجها فى مزحة من الدكتور كمال صاحب العمل ، نكتة أطلقها وانقلبت لجد لكنه حين يضمها يخالها " سعاد حسنى " .. لماذا لاأكون بعينيها " عبد الحليم حافظ " ؟!
مر بجوارها ، قبض على حزمة فجل بحركة استعراضية قدمها لها كباقة ورد .. هم بالغناء (و الشعر الحرير ع الخدود يهفهف و يرجع يطير .. بتلومونى ليه ) .
صرخت فى وجهة ..
_ بتقول إيه يا أخرس مش فاهمة ..
ركل القفص فى وجهها وفر هاربا الى منزل صاحب العمل .. عاوده الاختناق لمحاولته أن يتكلم .. صوت "هلفطته " يزعج من حوله جلس فوق السلم ينتظر الطعام لرب العمل .. بجواره جلست ابنة الصيدلى ببراءة خمسة أعوام تطعمه من الحلوى التى تحمل :
_ تعرف تحكى حدوته يا عبدة .
مد يديه ربت فوق ركبتها .. حاول حملها .. ضحكت ..تملصت :
_ لا يا عبده .. ماما قالت لا تلعبى مع الكبار .
ربت فوق ظهرها .. رمقته أمها صرخت فيه :
_ ماذا تفعل يا حيوان ، جذبت البنت ، ألقت فى وجهة بصينية الطعام .
حاول أن يسألها ماذا فهمت ؟ .. ماذا تقصد ؟! .. دفعته من فوق درجات السلم .. صرخ .. صعد ليفهمها ألقت به كنفاية ، تجمع الجيران .. صاحت :
- الحيوان يعاكس ابنتى ..
عيناه تستنجدان بالطفلة ..اختفت وسط السيقان التى تجمعت لتركله .. حاول الصراخ .. خذله لسانة .. تشقق جبينه و هو يهذى و يخبط رأسه فى الحائط ، سال الدم ، خضب اللحظة بالتوتر ، خيم الصمت على الجميع ؛ توقفوا حين ركضت الصغيرة نحوه ، تضم ساقيه .. خائفة .. باكية .. مشفقة ، دون أن تدرى أن كل هذا بسببها أخرجت سودانى من جيبها :
_خذ سودانى يا عبده .
نظر إليها طويلا ..رمق السيدة التى نكست رأسها .. خمدت النار فى عينية فجأة .. حاول أن يصفر .. فعلت مثله الطفلة ..سعيدا حاول الغناء ضحكت الصغيرة .. أشرقت عيناه .. حملها ، رقص بها .. كلما قلدت غناءه شعر كأنة طائر مع سرب العصافير.. نسى الدكتور ، وظلم الست ، الزوجة ،نظر فى عين الصغيرة ، احتواها بدوائر عميقة ، هبط السلم طائرا كانت عيناه معلقة بالسماء يعانق المخلوقات التى تفهمه يجلس بجوار الماء ، يسمع خريره ..و يغنى .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق