القطـة
سرعتها جعلت المارة دوائراً بيضاء، تضيق تقبض على ساقيها .. تكبلها، كلما تخلصت من قيد تلاه قيد، أنفاسها تعلو لاهثةً، تسبق عدد لفات محرك السيارة عدواً للخارج. بعيداً عن هذا المستطيل الذى يعتصرها داخله، عجلاته لا تسعفها هرباً من أفكارها، صوت أمها يسد نوافذ أذنيها:
- لولا سؤالك عنى لمت دون أن يدرى بى أحد .. لم يكن لى غيرك أنت وأبوك لا صديق .. لا عمل .. لا أحد .. لا أحد.
فرملة عالية زاعقة فكت رموز الدوائر البيضاء حولتها لكتلة بشرية تحلقت حولها:
- اركنى "يا مدام" .. شوية "مية" يابنى من القهوة .
- لا تخافى إنها قطة.. ربنا ستر .. اشربى.
أدركها الوعى .. زفرتهم بعيداً عنها، عادت لمنزلها مددت ساقيها، تأملتهما:
بيضاوان، تحسستهما.. ثلجيتان، حركت أصابعها .. عشرة أصابع للقدمين ومثلها لليدين، يوم تزوجت كانت فى العام العشرين، واليوم تمر عشرون عاماً ناعمة، مطالبها مجابة، تحفظ طريقا واحدا للسير إذا أرادت الخروج بمفردها هو طريق بيت أمها، شئ غريب على سيدة متعلمة فى القرن العشرين، قفزت صورة القطة الملقاة دون حراك، آلمها المنظر:
- ما الذى جعلها تسير فى طريقى الوحيد ؟
رفعت رأسها.. بأعلى الحائط صورة زفافها، كالفراشة الصغيرة الحالمة، اقتربت من الصورة .. همست:
- آآآه .. نسيت لأى شئ كنت أرنو !!
تحت الصورة قطة من فراء، تنام على وسادة مخملية أهداها لها زوجها بعد عام من زفافهما، هناك ملامح تربط بينهما .. براءة اللون الأبيض، تنبهت لشىء غريب .. أضاءت أنوار المنزل .. فى كل ركن قطة مخملية باللون الأبيض، تنام على ذراعيها، تداعب صغارها، تتأمل شيئا بعيدا، عشرون قطة بكل الأحجام لونها أبيض، تذكرت قطتها فى المطبخ، بحثت عن "شبشبها" .. نظرت طويلاً إليه .. فراء أبيض .. ركلته .. انزوى فى ركن .. أفزعها المنظر .. أغمضت عينيها، ذكرها بالقطة المسجاة بفرائها الأبيض، داست حافية فوق الأرض، البرودة تنعشها، وضعت حليبا، قربته، نفرت القطة .. إرتكنت على الحائط، فتحت لها باب المطبخ .. أخرجتها.. كانت خطوات القطة قصيرة متراخية، سدت باب المطبخ .. منعتها من العودة . أكملت الهرة المشى منكسة رأسها.. رافعة ذيلها لأعلى.
همست: عليها أن تتعلم… أغلقت الباب، شعرت بالارتياح.
فى الصباح بحثت فى الجرائد عن وظيفة خالية، رسمت دوائر بالقلم حول عدة إعلانات، تم تحديد مقابلة فى شركة جديدة، سعيدة أخبرته .. قال:
- ماذا ؟! وهل تريدين شيئاً ؟
- أريد ألا أنتظر مثل أمى من يسأل عنى
- أنت معى فى أمان و..
- ما الذى يهدد أمنى وأنا أعمل وأنت معى
- لا أريد لك ماحدث لقطتك، انظرى من النافذة تجدينها شريدة مع قطط الشوارع .. تأكل من القمامة، تتطاول عليها الكلاب.
- كفى.
ذهبت يسبقها الأمل .. يرحب بها .. يفتح لها باب الشركة.
- إلهام.
شردت أول مرة تسمع اسمها مجردا من رجل غريب.. تعودت أن يسبقه هانم .. مدام.
قطع المدير استرسالها.. نحن هنا معا، نعمل ونتعلم.. المهم أن يكون لديك استعداد للعمل، وضع يده فوق ظهر مقعدها .. انتفضت .. تصورته .. مد يده ليجلسها .. كانت تسمع كلاما مغايرا .. دفعته، هرولت.. صوت زوجها:
- سيتجرأ عليك ..
صوت أمها: الوحدة قاسية .. لم يكن لى غيرك.
ظلت تركض، ضلت الطريق .. تاهت:
- أين السيارة .. السائق موعده بعد ساعه، أخرجت تليفونها، طلبت زوجها باكية:
- أنا فى مكان لا أعرفه، نظرت حولها .. تعال .. الطريق غريب من هنا … لا أعرفه.
- كيف ؟! خذى " تاكسياً"
هامسة: من فضلك…
عاد بها الزوج منتشيا بينما ألقت بأحلامها على قارعة الصمت، جلست خلف زجاج النافذة مكتفية بمراقبة قطتها تخمش قطة كبيرة، تلعب بذيلها متلذذة بعد أن طالت مخالبها وتعلمت الخربشة.
1/4/2001
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق