ثوب أســـود للزفـــاف .. !
خلعت الحذاء .. مدت ساقيها فوق السياج الحديدي. ملتهبتان كوهج الشمس المنكسر المتعب، علقت عينيها تنتظر لحظة يغوص قرص الشمس في ماء النيل، لعلها تسمع طقطقة الأشعة الساخنة عندما تلتقي بالماء.. كلاهما يطفئ انتظار الآخر له.
تتأمل لحظة استقبال ليل القاهرة الساهر .. أضواؤه تبرق.. قطع من ماس فوق صدر النيل الحريري الأسود. جمعت أكياسها المنثورة بجوارها فوق المقعد الخشبي، دست قدميها في الحذاء، انحشرت في الأتوبيس، تتأمل الوجوه المقطبة، والمستكينة، نظرات الطلبة العائدين من الجامعة بمرحهم، التصقت نظرتها فوق شفتي فتاة تحملق في فتاها الواقف أمامها يتمايل مع هزات الأتوبيس، يختلس لمسة من يدها أو ضمة غير مقصودة، انتقلت نظراتها إلى لا شئ .. سنواتها في المعهد العالي للخدمة الاجتماعية مـرت دون لقاء أو ضمة غير مقصودة. تحفظها يرهـب زملاءها ، خوفها من تحذير أمها:
ـ البنت سمعة ، وطلبة الجامعة لا وراءهم ، ولا أمامهم ، خذي بالك. أخذت بالها ومرت السنوات تنتظر، أربعين عاماً تترقب ابن الحلال منذ ولدت.. ألم تقل لها أمها:
ـ البنت نصيبها مكتوب من يوم ولادتها ؟! وتأخر النصيب كثيراً.
أفشت لصديقتها رغبتها :
ـ أريد منديل عقد قرانك، يقولون أنه يفك النحس مادام قد تم به زواج.
تمتلك حتى الآن سبعة مناديل آخرها منديل أختها الصغرى الجميلة الرشيقة التي توفيت منذ عام.
يوم طرق بابهم كادت تفقد وعيها :
ـ أرمل .
ـ لا يهم .
ـ لديه طفلان .
ـ أكسب ثواباً.
ـ على قدر حاله .
ـ ربنا الغني .
ـ شكله ليس وسيماً.
ـ الجمال لله ، الشكل ليس هدفي.
شرطها الوحيد أن تلبس فستان الفرح الأبيض .. اعترض العريس : إنه ليس صغيراً ولا
هي.
رفضت العريس ..!! لن تتنازل عن حلم الطرحة التي طرزتها بنفسها.
عادت تفترش أحزانها .. في تردد اقترب منها زوج أختها الراحلة :
بنات أختك الثلاث أوْلى بك .
صرخت :
ـ لماذا الآن ؟ وكيف أأخذ مكان أختي ؟!
نظرت لأمها تستنطقها :
ـ هذا قرارك يا ابنتي .. الثواب خذيه في بنات أختك ، وزوج أختك طيع .. طيب.
ضمتها أمها :
ـ من نعرفه .. أحسن .
قالتها وانصرفت ، همست لنفسها:
ـ وحلم الفستان الأبيض وستة أمتار تل أبيض تربعت ليالي طويلة أحيك الخرز والترتر.
همست لها الصغيرة وهي تتأمل الطرحة .. تحتضنها بأناملها :
ـ اصنعي لي طرحة يا خالتي.
حملتها بابتسامة دامعة ، قبلتها ، نامت الطفلة ويد الخالة تهدهدها .. همست :
ـ ستة أمتار من التل أكبر من عمرك يا حبيبتى … يكفينى أنتم أزين بكم عمري.
دخلت منزل أختها موشحة بثياب الحداد ، فتحت دولاب حجرة نومها الجديدة تدفس فيه الطرحة البيضاء الموشاة بينما هتفت الصغيرة وطرحتي يا خاله.
مدت يدها ، زينت رأس الصغيرة بالطرحة ، ضمتها ، قبلتها ، كانت تشبهها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق